فصل: يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه كقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا. وأقام ابن عمر رضي الله عنهما على حفظ البقرة عدة سنين قيل ثماني سنين، ذكره مالك .
وذلك أن الله تعالى قال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وقال:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وقال:
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وكذلك قال الله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وعقل الكلام متضمن لفهمه. ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه. فالقرآن أولى بذلك. وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب، والحساب ولا يستشرحوه. فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم، وسعادتهم، وقيام دينهم، ودنياهم ؟ ولهذا كان النزاع بين الصحابة رضي الله عنهم في تفسير القرآن قليلا جدا . وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة. فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم. وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. ولهذا قال الثوري إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم. وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير. يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره.
والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة، كما تلقوا عنهم علم السنة. وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال.